تمّت كتابة هذا المقال من قبل عُلا سامر من سوريا.
أكتب قصتي الآن وأنا أبلغ من العمر ثلاثين عامًا ، رقمٌ كهذا يخبرك أن صاحبه خاض الكثير و رأى الأكثر ، حتى وصل لهذا النضج الذي هو فيه الآن . ثلاثون ربيعًا من عمري ألخصهم الآن في ورقة أو ورقتين ربما ..
عندما كنتُ أبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، كنت قد وصلت لمرحلةٍ أرى نفسي فيها طفلةً مسؤولة وناضجة، أشعر بنفسي مصقولةً بالقوة والصبر والتحمّل أكثر من جميع الفتيات اللواتي في فئة عمري، فقد نضجوا في جوّ الأسرة والرعاية والدفء والاهتمام على خلافي. لقد قيل لي أنني وُجدت أمام الميتم في ليلة صيفيةٍ من ليالي أغسطس، بياناتي في الميتم ” مجهولة النسب “، حتى خانة الأقارب أو اسم العائلة غير معروف، ولكن لم أحزن قط… سيأتي يومٌ أرى نفسي فيه أحمل اسمًا آخر وراء اسمي.
ذكرياتي لا تتعدّى سلالم الميتم المنتهي بالقبو القديم المليء بالأسرِّة والمقاعد الخشبية غير المستعملة … تنتظر قدوم فتيات جديداتٍ لتصبح ملكهنّْ، وممرّاته الضيقة الطويلة المزيَّنة بأوراق الجدران الباهتة و المليئة بالغرف المكتظة بالفتيات المسؤولات مثلي. وهناك في نهاية الممر لليمين قليلاً تجدون المطبخ الواسع ، يحتوي على الطعام القليل والتوبيخ الكثير من عاملاته البدينات ، كنت أحب أيام الاثنين وانتظرها بفارغ الصبر لأنني أحصل فيه على قطعة البسكويت الأسبوعيّة .
أمّا إن نظرتم لليسار تجدون غرفة التلفاز الكبيرة أو شاشة السينما الصغيرة، نشاهد فيها الأفلام كل اثنين وسبت ، ونشاهد الأخبار والأنشطة الترفيهية شبه يوميًّا … إن كانت المديرة راضيةً عنّا!
نعود للخلف قليلاً ونخرج من الممر لنرى البهو الكبير الذي يستقبلون الأهالي فيه ، ثم في المنتصف هناك مكتب المديرة… لا أنصحك بالدخول بدون طرق الباب بأدب لأنك ستستقبل وابلَ التوبيخات المعتادة، وستحرم من ليلة السينما معنا .
دائمًا ما تقول لنا المديرة أنّ الفتاة المهذَّبة ، الصامتة التي تقول نعم سيدتي لكل شيء بدون تذمِّرٍ وأسئلة كثيرة ؛ هي فقط من سيأتي الأهالي لأجلها .
سأهمس لك بشيء ؛ لا أوافقها الرأي!
كانت تمرّ الأيام والأشهر وأنضج، أرى الفتيات قد رُزقن بعائلات جميلة ومُحبّة ما عداي، عندما تذمرّت من هذا الحال أخبرني حارس الميتم المسنّ أنني مميزة و المميزات عليهنّ التحلي بالصبر للفوز في النهاية، لكن مديرة الميتم كان لها رأي آخر ؛ بأنني كبرت بما فيه الكفاية لأغادر وأن هناك من هنّ أحق مني بالنوم في سريري.
لولا بكائي ورجائي وتدخّل الحارس وعاملة المطبخ التي كنت أساعدها في التنظيف بعد الفطور يوميًّا مقابل الحلوى، لكنت آنذاك في أزقّة الشوارع الخلفية أحتمي من البرد، انتهى الحوار بعد اقتراح عاملة المطبخ أنه عليّ المساعدة في التنظيف والطبخ مقابل بقائي هناك، الاقتراح الذي أرضاها وسمحت لي بالبقاء. أتعلمون شعور أن تُجبر على شيء سيء لأجل الهرب من الأسوء ؟ هذا هو …
وهكذا مرّ الوقت حتى بلغتُ السابعة عشر ، كنت أهرب من التنظيف لأسفل القبو ؛ أتعلّم بعض الأمور مثل الحساب وحلّ الألغاز ، أحيانًا ألعب الضامة والشطرنج ، وأسترق النظر للحارس وهو يقرأ كتبه الجميلة الضخمة، حتى سمح لي أخيرًا بقرائتها مقابل أن أبقى مهذبة وهادئة ، عندما كنت أقرأ… كنتُ أرى العالم كلّه وأسافر وأرتحل وأعيش شعور آلاف القصص والروايات وأنا جالسة في مكاني على سلالم القبو .
ذات مرة وأنا اقرأ رأيت الجميع متوتر : هذه تنظف وهذه توبخها لأن تنظيفها سيء ، المديرة تصرخ وترتب الأوراق أمام مكتبها ، الفتيات يركضن لغرفهنّ ويرتدين أفضل الأثواب ويسرحنّ شعرهنّ، سألت واحدة فأجابتني أن السيدة جولييت قادمة. تأتي مرة كل سنتين و تتبنّى فتاة منا دراسيًّا وتدخلها الجامعة وتجعلها امرأة مساهمة في المجتمع.
شعرت بقلبي ينبض بقوة وكأنه يخبرني: “هذه فرصتك للهرب من هنا!”
سرّحتُ شعري وارتديت ثوبي الأزرق المزّين بأزهار الأقحوان البيضاء، وضعت على سريري عدّة كتب من تلك التي قرأتها وجلست انتظرها .
بدأ قلبي ينبض بقوة كبيرة وأنا أسمع صوت خطوات السيدة جولييت تقترب من غرفتنا، تقدمت فتاة علي واستقبلتها تمثّل الانضباط والهدوء، شعرت بفتور في حماسي وأنا أراها لا تنظر إليّ البتّة ، وتملّكني الضيق عندما أدارت ظهرها لي وهمّت بالخروج بعدما ألقت نظرة سريعة على الغرفة، قاطعتُ خروجها بسؤالي:
– سيدتي، أتحبين الكتب ؟
سؤالي أثار قليلا من فضولها فاستدارت نحوي باستغرابٍ، والفتاة تمقتني بنظراتها، شعرت أنها فرصتي فتابعتُ:
– أنتِ تجولين العالم بطائرتك وأنا أجوله هنا في مكاني، أعلم أن وقتك ضيّق ولكن ما رأيك أن أخبرك المزيد عن هذه الطريقة العجيبة مقابل جلسةٍ صغيرة معك؟
ويا إلهي لقد أحبتني حقًا، لقد ابتسمت لي!
نجحتُ في كسب منحتها الكبيرة لأفضل جامعةٍ في البلاد، خرجت من الميتم نحو النجاح في الخارج ، لا أسمح لعامٍ يمرّ بدون إنجازات لأثبت لها أنني كنت أستحق تلك المنحة فعلا ، وأنها لا يجب أن تندم لإعطائي إياها.
وبعد مرور تلك الأعوام ها أنا ذا ، في الثلاثين من العمر محاميتّها الخاصة التي تسافر معها حول العالم ، ومؤخرًا فتحت ميتمًا صغيرًا باسمها لأقول لها شكرًا بطريقتي الخاصة، وبالتأكيد لن أسمح للفتيات هناك أن يختبروا تجربتي القاسية ، وسأبقى أراقب المديرة!
كل نجاح ٍ كبير وراءه عناءٌ وصبر طويل يا رفاق ، فقط آمنوا بأنفسكم واقرؤوا فإنّ: “خير جليسٍ في الزمان كتاب” .
عن كاتبة المقال:
عُلا سامر من سوريا، فتاة في العشرينيّات من العمر ، تدرس اللغة العربية وآدابها في إحدى الجامعات الأردنية، لديها شغف وحب كبير للقراءة والمطالعة، وها هي اليوم تشارك مهاراتها في كتابة القصة على منصّة تعلّم.