تمّت كتابة هذا المقال من قبل عُلا سامر من سوريا.
من منّا لا يؤمن بالحب الموجود في كتب التاريخ والأدب والدين ؟ الحب الذي دعت إليه الديانات السماوية والكتب التي نعرفها سواء كنا من المؤمنين بالقرآن الكريم أو التوارة أو الإنجيل المقدس ، فلا يمكننا إنكار أن الحب موجودٌ فيها.
الشيء الوحيد الذي خلقه الرب للكون بأسره وجمّله، وجعله في كل مكان وزاوية…فنجد حب الرب، حب الكون وحب النفس، حب الغير وحبّ الحب نفسه!
ولكن شيء نقيٌّ كهذا هل سيوجد منذ الأزل ويبقى كما هو دون تدّخلات سوداوية لتزعزع نقاء هذا الحب ؟
إنها طيور الفِيبِيّ الشَّرقيّة تحلّق بحيوية في سماء أوروبا الصافية في يوم صيفي معتدل، تراقبها بياتريس الفاتنة بحبّ وهي تبتعد وتقترب من النافذة في مستشفى سانت بارثولوميو، آملةً أن تستيقظ الصغيرة ماري من غيبوبتها لتريها إياهم، نظرت لها بحزن وشفقة … كيف لصغيرة أن تُحرم من الحب والحياة وتبقى ملازمة للفراش؟ كيف يتحمّل جسدها الصغير هذا المرض كلّه؟
قاطع صوت تفكيرها نداءُ الطبيب لها:
– هناك حالة مستعجلة أيتها الممرضة أريد مساعدتك .
و من موقفنا هذا اطِّلعنا على حياتها بالمجمل، فهذا هو يومها يتكرر دائما، وهذه هي حياة تلك الممرضة المحبة الشغوفة التي تعطي من الحب والعناية أكثر مما تأخذ، المعروفة بملاك الرحمة في قريتها، المساعدة للغير، الجميلة المتواضعة، والتي عانى جدا برايدن شاب القرية الغني الوسيم ليفوز بقلبها ومن ثم خطبتها.
عندما ننظر لهكذا تفاصيل نجد أنه من الصعب للحزن أن يدخل حياتها، ولكنه دائما يجد الزوايا الخفية ليدخل منها ويغيّر بلمساته قصص الحب الأبديّة ويضيف عليها طابع النهاية الحزينة.
و لاختصار الأحداث سرعان ما تدّخل بقوة كبيرة – ليس في قصتهما فحسب – بل في كل زاوية من أوروبا ، تلك الحقبة الزمنية التي نعرفها جيدًّا ؛ مايو – 1300م.
لم تتميز نهايتها سوى بالمجاعات والأوبئة والحروب ، ونرى في الجهة الأخرى الانشقاق والنزاعات والهرطقة في الكنيسة الكاثوليكية، ومن ثمّ .. الضربة الحاسمة التي أنهت كل هذا العناء وأنشأت عناءً جديدًا وزادته سوءًا وسوداوية!
تلك الضربة عرفتها بياتريس فيما بعد باسم الطاعون، مرضٌ انتشر بسرعة مرعبة لم يستوعبها أحد، تركض في الشوارع تجد الجثث المكوَّمة هنا، والمرميَّة هنا، وهناك التي يتم تجهيزها للحرق كي لا ينتشر الوباء أكثر ، وفي زوايا الشوراع الأخرى تجد الذي يناجيك لإنقاذه ولكنك متأخر جدًا فإذ بدأ الطاعون يسري في دمه، تنظر للزقاق قليلاً ترى أطفالاً مصابين مختبئين خلف أكياس القمامة هربًا من الحرق أو النفي!
لم يخف هذا الوباء من لوردٍ أو حاكمٍ أو نبيل أو حتى فنانين، تجده اخترق أجسادهم وامتلكها وبدأ بسلب قوتها وحيويتها و إضفاء اللون الأسود عليها، أجبروها على ارتداء لباسٍ خاص بالأطباء والممرضين ، يُرعب الأطفال وكبار السن ولكنه في النهاية يحميها، ولكن تخيلّ؛ المصاب آخر من يراه هو شخص بعباءة عملاقة وقناع مقدمته على شكل منقار طائرٍضخم! لأنه وفقًا لأحد المصادر : اعتقد الناس ذات مرة أن الطاعون انتشر عن طريق الطيور، لذلك قد يكون استخدام مثل هذا القناع نابعًا من الاعتقاد بأن المرض يمكن إزالته من المريض عن طريق نقله إلى الملابس.
إنها العصور الوسطى و اعتقاداتها!
أرسل لنا الآن مقالك ، وكن جزءًا من برنامج “اكتب معنا” التطوعي لإثراء المحتوى على فرصة. أرسل قصّتك الآن!
أمّا بياترس فقد افترقت عن عائلتها وخطيبها وجلست في المستشفى تسامر وتراقب المرضى أيامًا و ليالي طوال…
تكتب وصية هذا، وتعطي أمرًا بدفن ذاك، تحصي عدد الوفيات اليوم، تشتاق قليلاً، تبكي في الليل أحياناً، تعطي بعض الأمل للمرضى بالشفاء، حتى أنها كانت ممنوعة من إرسال الأخبار والرسائل والشوق لعائلتها وخطيبها خوفًا من أن تنقل لهم المرض، إذ بدأت تكتشف أنه يتنقل باللمس والتنفس .
بدأ الطاعون بالزحف رويدا رويدا إلى أن أودى بحياة ثلث سكان أوروبا. ولقرابة 4 أشهر لم تلتقِ بأحدٍ سوى المرضى المميزين أنهم على حافة الموت الأسود لوجود تلك البقع السوداء والبنفسجية على أجسادهم المسكينة، لكن كلّ هذا لم يستطع الحزن أن يأخذ من قلبها مكانًا، لأنها كانت دائمًا تتسلَّح بالأمل، فقرر القدر اللعب على وتيرة أخرى.
لا يمكننا نسيان تلك الليلة الكئيبة الطويلة من حياة بياتريس حيث كانت تجلس بقرب الرسام الشهير جونرايد تبادله أطراف الحديث لتؤنسه قبل موته وكان قد طلب منها لوحة وأدوات رسمٍ ليرسمها، وتكون رسمته الأخيرة باسمها ( ملاك الرحمة في عصر الموت الاسود )، وما إن بدأ برسم ثوبها الطويل النظيف وشعرها المرتب حتى قاطعهما دخول الطبيب بوجه مصفّرٍ حزين قاتم ينبئ عن خبر ما …
نزل الخبر مثل سهامٍ حادة في أذنيها.. سلب قواها وجعلها خاوية الصلابة والتحمل، فجّر دموعها، دمها ، روحها، قطع الأمل الذي داخلها من جذوره، جعلها ملاك رحمةٍ مكسور الجناح، ركضت بسرعة كأنها تسابق الزمن لترى خطيبها برايدن في الغرفة المجاورة ذلك الوسيم الذي لم يستسلم وفاز بحبها .. هل يستسلم للمرض الآن ؟
و الرسام الذي اتكئ على الطبيب ماشيًا خلفها، تابعها بعيون حزينة كيف تنهار باكيةً أمام جثته المرمية بإهمال على السرير و وجهه الداكن ذو البقع السوداء ينظر بحزن نحو الحائط لا يستطيع مواجهتها ، راقبها تخرج بخطىً ثقيلة ومتعثرة لتستند على مقبض الباب وتبكي بحرقة لم تعهدها أبدًا ، لحظة لا تستطيع تأملها بدون أن تنهمر عيناك، صمودها وحزنها هذا جعله يقرر تغيير لوحته من (ملاك الرحمة المبتسم إلى الموت الأسود وملاكه الحزين )، ويضيف خطيبها الحزين الى اللوحة أيضًا ، كذكرى منه هو كذلك بعد موته.
انتهى الطاعون في يناير – 1352م
ولكن .. هل سينتهي الحزن يومًا ؟
عن كاتبة المقال:
عُلا سامر من سوريا، فتاة في العشرينيّات من العمر ، تدرس اللغة العربية وآدابها في إحدى الجامعات الأردنية، لديها شغف وحب كبير للقراءة والمطالعة، وها هي اليوم تشارك مهاراتها في كتابة القصة على منصّة تعلّم.